المعجم اليمني

جنأ

ج ن أ

تعريف-1: الجَنَأُ ـ في اللّغة اليمنيّة القديمة ـ هو: السّور.. سور المدينة أو المعبد أو البلدة ونحو ذلك. وجمع الجَنَأ: أجْنَاء مثل نبأٍ وأنباء، ويقال في جمعه جنآت أيضا. وهو من جَنأ يَجْنَؤ يقال: جَنأ القوم مدينتهم يَجْنَؤنَها: إذا هم بنوا حولها سوراً يَجْنَؤها، ويَكْتنفُها، ويقيها، محيطاً بها، وحائطاً لها. وقد وردت هذه المادّة بعددٍ من صيغها الاسميّة والفعليّة، وبهذه الدّلالة، في عددٍ من نصوص المسند. ويكفي هنا الإشارة إلى سبعةٍ منَ النّصوص الّتي تدور حولَ تأسيس (جَنَأِ أوام) وبنائه؛ أي: (سور معبد الإله المقه ثهوان) على هضبة (أوام) في (مارب). وبرغم أنّ هذه النّصوص هي ـ أوّلاً ـ شاهدٌ تاريخيٌّ مهمٌّ على الأسلوب الّذي كان متّبعاً في المجتمع اليمنيّ القديم، عند تأسيس وبناء المنشآتِ العامّة ذاتِ النّفع المشترك، وهو أسلوبٌ يتّضح من خلال النّصوص السّبعة المشار إليها، أنّه لم يكن فيه للدّولة إلّا اتّخاذ القرار والبدء بالتّنفيذ، بينما يتولّى بعد ذلك كبار القوم بعون أبناء كياناتهم الاجتماعيّة، عمليّة التّنفيذ الكامل بطريقةٍ تعاونيّةٍ جماعيّةٍ مثيرةٍ للإعجاب. نعم: رغم ذلك لا نهتمّ هنا إلّا بالوقوف على هذه النّصوص كشاهدٍ لُغويٍّ على ما نحن بصدده من دلالة مادّة (ج ن أ) على السّور والتّسوير. أمّا النّصّ الأول()، فإنّه يمثّل (القرار الرّسميّ) الّذي اتّخذه المُكَرِّب السّبئيّ البنّاء() (يدع إل ذريح بن سمه علي) لبناءٍ أو توسيعِ سور معبد الإله (المقه)، وهو نصٌّ قصيرٌ حاسم، يقول في أوله:«إنّ يدع إل ذريح بن سمه علي مكرب سبأ قد جنأَ أوام بيتاً لالمقه.. إلخ»؛ أي: سوّر هضبة أوام لتكون معبداً للإله المقه . واستعمل صيغة الماضي ـ جنأ ـ للحسم، حتّى كأنّ البناء قد تمّ بصدور قراره، وقد نفَّذ في عهده هذا القرار، حيث بنى في سِني حُكمه جزءاً كبيراً منَ الجنأ ـ السّور ـ ودوَّن قراره بخطٍّ مسنديٍّ رائعٍ على أحد المداميك، والواقع أنّ هذا القرار هو قرار إعادة إنشاءٍ على نطاقٍ أوسعَ وأضخم؛ إذ إنّ الدّارسين يرون أنّ تحت هذا المعبد ـ كما هو اليوم ـ دورين أو ثلاثة، تمثّل المراحل السّابقة من مراحلِ التّعبُّد في هذه الهضبة. وأمّا النّصّ الثّاني()، فيأتي بعد فترةٍ منَ الزّمن سكتت فيه النّصوص عنِ الحديث عمّا جرى في ساحة (أوام) من أعمالٍ بعد عمل (يدع إل ذريح)، ولكنّ النصّ يمثّل بدايةً لستّةٍ منَ النّصوص تتحدّث تباعاً عنِ العمل النّشيط الّذي بادر إليه كبار القوم، لإقامة الجنأ؛ وهو السّور طبقاً للقرار وطبقاً للصّورة الّتي نراه عليها اليوم. وهذا النّصّ ـ الثّاني() ـ يقول ما معناه: إنّ كبيراً من كبار الكهنة وهو (تبّع كرب بن ذمار يدع الشّوذبيّ) وبني شوذب ورجالهم قد تقرّبوا إلى الإله (المقه) ببناء هذا القسم التّكميليّ المحدّد منَ الجنأ، من عند المداميك الّتي عليها هذه الكتابة وحتّى القمّة بكلّ ما على هذا الجزء منَ المغابب والمحافد ـ الأبراج ـ … إلخ. وأمّا النّصّ الثّالث()، فقد دوّنه أحد أبناء الأسرة الحاكمة وهو (إلي شرح بن سمه عليّ ذريح) وينصّ على أنّه تقرب إلى الإله (المقه) بهذا الجزء التّكميليّ منَ الجنأ من عند المدماك الّذي فيه هذه الكتابة إلى القمّة ذاتِ الاتّساع بما عليها منَ المرافق. أمّا النّصّان الرّابع والخامس()، فإنّهما مدوّنان في زمن الجيل الثّاني والثّالث من أسرة الكهّان الرّشوانيّين من (بني شوذب) وعلى رأسهم ـ في نصّهم الأوّل ـ الكاهنان: (ذمار كرب بن أبي كرب، وسمه أمر بن تبّع كرب الشّوذبيّان) وهما يذكران في نصّهم هذا أنّهما بنيا، وأنشأا بَدْءاً هذا القسم التّكميليّ منَ الجنأ وذلك من عند المحفد إلى القسم السّابق الّذي بناه ذمار كرب الشّوذبيّ ـ [طولا] ـ ومن عند المدماك الّذي عليه الكتابة، حتّى القمّة ـ [ارتفاعا] ـ. ومدوِّن النّصّ الآخر هو أيضاً (ذمار كرب بن أبي كرب الشّوذبيّ) وحده، وهو أطول من سابقه الّذي يشاركه فيه (سمه أمر)، كما أنّ له أهمّيّةً بالغة؛ لأنّه يبيِّن أنّ الأُسر الحاكمة وذاتَ الشّأن في (مارب) كانت في ذلك الوقتِ المبكّر تنتمي إلى مناطقَ مختلفةٍ في (اليمن) فمن خلاله يتّضح أنّ (بني شوذب) كهّان الإله المقه، والّذين يكون منهم الحكّام هم من (آنس)، ولا تزال أصولهم وأملاكهم هنالك ـ عند كتابة النّصِّ ـ والمهمّ هنا ـ منَ النّاحية اللُّغويّة ـ أنّ ذمار كرب يذكر في أوّل نصّه الجنأ ويتقرّب بالقسم التّكميليّ الّذي بناه إلى الإله (المقه) ويذكر في سائر النّصّ ما أوقفه وما أودعه في حماية الإله، من أمواله في (جنتي مارب) وفي (آنس). وأمّا النّصّ السّادس()، فإنّ مُدَوِّنَيه أبٌ وابنُه ـ كما يبدو ـ وهما (لحيعث بن حياو، وحياو بن لحيعث) وهما من كهّان (هوبس والمقه) وهما يتقرّبان إلى الإله (المقه) بالقسم التّكميليّ منَ الجنأ، وذلك من عند المدماك الّذي فيه الكتابة، حتّى قمّة المحفد والمغببين. وأمّا النّصّ السّابع() فمُدَوّنٌ باسم (أبي كرب ذي زلتان) وهو يتقرّب إلى الإله (المقه) بعددٍ منَ الأعمال الّتي قام بها، بما في ذلك القسم التّكميليّ الموصل بين طرفين من أطراف الجنأ. فهذه سبعة نصوصٍ منَ النّصوص المسنديّة الّتي لها علاقةٌ بمادّة (ج ن أ) منَ النّاحية اللُّغويّة الّتي نحن بصددها، حيث يذكر أوّلها صيغة الماضي من جنأ يجنأ بمعنى: سوّر، وجاءت في باقيها الصّيغة الاسميّة الجنأ معرّفةً بعلامة التّعريف القديمة ـ جنأان ـ إلّا في (جام /557) فقد جاءت معرّفةً بالإضافة ـ جنأ أوام ـ وجاءت صيغتا الجمع أجناء في (جام /651/31) وجنآت في (سي /621/7/ C) . استطـــراد كان من حقّ هذه الدّلالة أن يُنَصّ عليها في كتب التّراث العربيّ المرجعيّة، ولكنّها لم ترِد فيها أبدا، ولم يُنصّ فيها على أنّ الجَنَأ هو السّور البتّة، وذلك رغم أنّها كانت متاحةً أمام اللُّغويّين في شاهدٍ صريحٍ وواضحٍ منَ الأمثال العربيّة، وهو مثلٌ تداوله اللُّغويّون فيما بينهم، ويذكر أجناءَ بمعنى: أسوار، إلّا أنّهم ـ ونقولها بصراحة ـ جَهِلوا المعنى الحقيقيّ للكلمة وأعطوها معنًى آخرَ خاطئا، وأوردوها في غير موضعها من معجماتهم، وخَبطوا خبطَ عشواءَ في شرحها وتعليل سياقها . إنّ المثل الّذي يتداولونه يقول: « أبناؤها أجناؤها»، وهو بالبديهة يتحدّث عن مدينةٍ لم يكن لها أسوار، ولكنّ أبناءها يفتخرون بأنّهم هم أجناؤها؛ أي: أسوارها وحُماتُها. ورغم وضوح معنى المثل فإنّه لم يحظَ بشرحٍ صحيحٍ في كلّ المراجع الّتي عدنا إليها. ويكفي هنا العودة إلى مرجعَينِ لُغويَّينِ شهيرَينِ وجامعَين، هما (لسان العرب) و(تاج العروس)، وسيجد من يرجع إليهما: أوّلاً: أنّهما لم يُوْرِدا المثل في مادّة (ج ن أ) المهموزة، رغم أنّ هذا الجذر مهموز، ومادّة (ج ن أ) هي الأولى به، كما أنّ ما يذكره اللُّغويّون من دلالاتِ هذه المادّة ـ بالهمزة ـ كانت حَريّةً بأن تساعد على فهمه فهماً صحيحا. ثانياً: أنّهما أوردا هذا المثل في مادّة (ج ن ي) المعتلّة الآخر بالياء، وشرحاه طبقاً لدلالة جنى يجني على ارتكاب الجناية واقترافها، وهذا بعيدٌ كلّ البعد عنِ المعنى الحقيقيّ للمثل. ثالثاً: أنّ تعليل قول المثل، وشرح سياقه، وسبب قوله جاء مُتَكَلّفاً وبعيداً عنِ المنطق المعقول(). ففي (اللّسان) جاء في مادّة: جنى يجني ما خلاصته() كما يأتي: فأمّا قولهم في المثل: «أبناؤها أجناؤها» فزعم أبو عبيد أنّ أبناءَ جمعُ بانٍ، وأجناءَ جمعُ جانٍ.. المعنى أنّ الّذي جنى وهدم هذه الدّار هو الّذي بناها بغير تدبير … وهذا المثل يُضرب لمن عمل شيئًا بغير رويّةٍ فأخطأ فيه، ثمّ استدركه فنقض ما عمله، وأصله أنّ بعض ملوك اليمن غزا واستخلف ابنته، فبنت بمشورة قومٍ بنياناً كرهه أبوها، فلما قَدِم أمَر المشيرين ببنائه أن يهدموه، والمعنى: أنّ الّذين جنوا على هذه الدّار بالهدم هم الّذين كانوا بنوها؛ والمدينة الّتي هدمت اسمها (براقش). هذا ما في (لسان العرب)، ولم يضف (الزّبيديّ) في (التّاج) عليه شيئا، إلّا أنّ المثل عنده بصيغة (أجناؤها أبناؤها) بتقديم (أجناء)، ولا فرق بين الرّوايتين، وهو بهما في (الصّحاح) و(العُباب) و(القاموس)، وغير ذلك منَ المراجع، ولكنّ شرح المثل فيها جميعاً جاء على هذا النّحو العجيب، فـ «أبناؤها أجناؤها»، وهذا هو رسمه كما يكتبونه بأقلامهم، وهذا هو نطقه على ألسنتهم، ولكنّهم أخرجوه عن (منطوقه) و(مفهومه) فأصبحت (أبناؤها) جمع (باني) وهو جمعٌ لا تجيزه اللّغة العربيّة، وأصبحت (أجناؤها) جمع (جاني) وهو أيضاً جمعٌ لا تجيزه اللّغة العربيّة، وبهذا خرج المثل عن (منطوقة) الصّحيح إلى نطقٍ خاطئ، كما أنّ (مفهومه) المعبّر عنِ اعتزاز أهل مدينةٍ ليس لها أسوارٌ بأنفسهم قائلين: (أبناؤها اجناؤها)، إلى معنًى آخرَ هو ذلك الّذي جاء في الفقرة الّتي أوردناها من كلام المعجماتِ المرجعيّة، وهو خطأٌ لا يكاد يصدّقه أيّ لُغويّ، لولا أنّ المعجمات شاهدةٌ عليه، فقد أُسيء إيراد المثل فيها نطقاً وفهماً وموضعاً وشرحاً وتعليلا.


المعجم اليمني في اللغة والتراث بواسطة: أرشيف اليمن twitter