المعجم اليمني

دره

د ر ه

تعريف-1: المدْرَهَة، بفتحٍ فسكونٍ ففتحتين: الأرجوحة. والجمع: مداره. وتدرّه فلانٌ يتدرّه تِدرّاهاً أو تَمَدْرَهَ تِمِدْرَاهاً: إذا هو تأرجح على هذه الأرجوحة أو المَدْرَهَة، والمتعدّي منه: درَّه فلانٌ فلاناً يُدَرّهه دِرّاهاً وتدريها. استطراد كانت ولا تزال ـ ولو بدرجةٍ أقلّ ـ عادةُ نصب المداره شائعةً في صنعاءَ وما حولها خاصّة، وذلك في موسم الحجّ من كلّ عام. وقبل بضعة عقودٍ منَ الزّمن؛ أي قبل حدوث ما جدّ على وسائل السّفر والمواصلات من تطوّرٍ هائل، كان الرّحيل منَ اليمن إلى مكّةَ للحجّ ـ وهذا الرّحيل بصفةٍ خاصّةٍ ـ أمراً شاقًّا محفوفاً بالمخاطر، وخاصّةً في الأراضي السّعوديّة حتّى منتصف القرن العشرين، فكم كانت تعاني قوافل الحجّاج بعد خروجهم منَ اليمن من أهوال غارات قطّاع الطّرق والمتعصّبين الّذين يستحلّون الدِّماء باسم إسلامٍ متخلّفٍ يدينون به، ولهذا كان المعتزمون على أداء هذه الفريضة يقدمون عليها بكثيرٍ منَ التّهيب والتّحسّبات، ولولا قوّة الحافز الدّينيّ وعمق الالتزام بفرائض الإسلام، لأحجم الكثيرون عن خوض تلك المغامرة في مثل تلك الأيّام، خاصّةً في بداية عهد آل سعودٍ وقبل أن يَدْجُن البترول أولئك البدو القساة. وبمقدار ما كانت هذه الرّحلاتِ الموسميّة تثيره في نفوس المرتحلين منَ التّرقّبات والمخاوف، كانت أيضاً تخلّف في نفوس الأهل والأقارب منَ الحزن والقلق والأشجان ما لا مزيد عليه. ولهذا كانت هذه المدّة الّتي تتراوح بين ثلاثة وأربعة أشهرٍ من كلّ عامٍ فترةً مثيرةً حافلةً بالشّوق الدّينيّ والقلق النّفسيّ والتّوقعّاتِ المبهمة والانتظار المَشُوْبُ بالتّوجّس ومرارة الهواجس الحزينة، ومن ثمّ أنتجت ظروف هذه المدّة الجيّاشة من خلال الزّمن فنوناً منَ الأدب الشّعبيّ كالحكايات (الحواديت) والأهازيج والأغاني والعادات الشّعبيّة الّتي تعود إلى أبعادٍ زمنيّةٍ ضاربة الجذور في القدم وفي التّغلغل المكانيّ في الأرض والمجتمع. (مثل الهوبنه)٭. ومن هذه العاداتِ المقرونة بالفّنّ الإبداعيّ من شعرٍ وألحانٍ وأغانٍ كانت ظاهرة (المَدْرَهَة) واحتفالاتها وأغانيها. فما كانت مواكب الحجّاج تغيب عن أنظار الأهل، حتّى تبدأ الأسر وخاصّةً في صنعاء وما حولها في نصب المداره، إمّا داخل البيوت أو في حدائقها وما يحيط بها أو يقع بالقرب منها من ساحاتٍ وباحات. وكانت حبال هذه الأرجوحة (المَدْرَهَة) تختار من أقوى الحبال وأمتنها وكثيراً ما تكون من سلاسل الحديد الكبيرة الّتي تسمّى (السِّرات) جمع (سِرِه)؛ انظر (س ر ي) حيث كان الاعتقاد أنّه إذا انقطعت (المَدْرَهَة) أثناء التَّمَدْرُه عليها، فإنّ ذلك نذير شؤمٍ بالنّسبة للحجّاج الّذين يتأرجّح المتأرجحون على تلك المدرهة باسمهم ومن أجل سلامتهم وعودتهم إلى أهلهم بالصّحّة والعافية والسّلامة. ويظلّ الرّجال والنّساء ـ بدرجة أكثر ـ والأطفال أيضاً، يتناوبون التّأرجح على تلك المداره وهم يغنّون الأغاني الخاصّةً بهم، طوال النّهار وردحاً من أوّل اللّيل. وأغاني المدرهة حزينةٌ في الغالب، وتغنّى بأبياتٍ عفويّةٍ ومحفوظاتٍ أدبيّةٍ معظمها على (الرّجز) وهي تبدأ بذكر الله سبحانه وبالصّلاة والسّلام على رسوله الكريم، ثمّ بذكر الحجّاج والدّعاء لهم بالحجّ المبرور والسّعي المشكور والذّنب المغفور، ثمّ الدّعاء لهم بالحفظ والحماية وسلامة العودة إلى الأهل والوطن، ثمّ تنتقل في الغالب إلى حديث الفراق وتباعد الأحبّة، وحرارة الأشواق ولهفة الحنين .. إلخ. ومن أحسن ما سمعت في صنعاء قول إحداهنّ: مِعِيْ شَجَنْ سارَ اليمنْ مِعِيْ شَجَنْ سارَ الشّامْ معي شجنْ تحتَ الصَّلَلْ٭ طالَتْ عليهْ الأيَّامْ وهذه المُتَمَدْرِهَة تحنّ لفراق ثلاثةٍ منَ الأحبّة الغائبين، أمّا أوّلهم فإنّه شجنٌ من أشجانها وقد توجه في رحيله جنوبا، ولعلّه كان موظفاً ممّن يرسلون من صنعاء إلى الجنوب وسائر أنحاء اليمن، وأمّا شجنها الثّاني فلقد ارتحل شَمالاً وهذا هو الحاجّ من أقاربها في ذلك الموسم، وأمّا الثّالث فإنّه شجن لا أمل لها ولا له بالعودة، فرحلته كانت رحلة الأبديّة؛ لأنّه ميتٌ مدفونٌ تحت حجارة (الصّلل) ـ انظر (ص ل ل) ـ الّتي أُهِيْلَ عليه من فوقها التّراب وقد طالت به الرّحلة ومرّت عليه الأيّام..فيا لها من مُتَمَدْرَهَةٍ ذات أشجان. وأظنّ أنّ السّرّ النّفسيّ، والباعث العقليّ والفكريّ لنصب المدرهة في هذه المناسبة إنّما جاء من كون كلّ أرجوحةٍ معلّقةٍ في الهواء لها قانونٌ يحكمها، فلها ذهابٌ إلى الأمام وعودةٌ إلى الخلف، وإذا كان ذهابها إلى الأمام يتمّ بالإرادة وبالفعل الإنسانيّ الّذي هو الدّفع باليدين مثل الرّحيل للحجّ الّذي يتمّ بالنّيّة والعزم انطلاقاً من قوّة الدّافع الدّينيّ، فإنّ أمر عودة المدرهة ـ والعودة هي هنا شجن المُتَمَدْرِهِيْن وشاغلهم ـ هي أمرٌ قدريٌّ حتميٌّ لا بد من حدوثه بقوّته الذّاتيّة، أو بقوّة قانونه العلميّ المرسوم، والّذي يحكم على الجسم المعلّق أنّه إذا مال عن مركز تعامده بقوّةِ دافعٍ ما، أصبح عليه العودة تلقائيًّا إلى الوراء ثمّ إلى الأمام وهكذا حتّى يستقرّ إلى وضع تعامده على مركزه، ومركز تعامد الحاجّ وكلّ مفارق لأهله، هو وطنه وبيته بين أهله ومحبّيه. وبذلك يتفاءلون بعودة الحجّاج على هذا النّحو المحتّم، ومن هنا أيضاً يأتي تشاؤمهم من انقطاع حبل المدرهة أو سلسلتها الحديديّة، لما ينذرهم به ذلك من مهالك قد يتعرّض لها حجّاجهم. ولا شكّ أنّ آخر ما حدث للحجّاج اليمنيّين في مجزرة (تَنُوْمَة) الّتي نفذها مقاتلو آل سعودٍ في بداية عهدهم ضد قافلة الحجيج اليمنيّ، والّتي قتل فيها جنود آل سعودٍ منَ الإخوان الجهلة المتعصّبين ألفين ومئتين منَ الحجّاج اليمنيّين المحرمين والعزّل بالطّبع من كلّ سلاح، وذلك عام 1922م، وكانوا يقتلونهم بالرّصاص أو ذبحاً وهم يصرخون ببدائيّةٍ متوحّشة: « اقتلوا المشرج.. اقتلوا المشرج»؛ أي المشرك. أقول: لا شكّ أنّ هذه الجريمة قد زادت من مخاوف الحجيج اليمنيّ ومخاوف أهليهم منذ حدوثها على ذلك النّحو منَ الهمجيّة الغريبة؛ إذ كيف يُوصف حاجٌّ إلى الله بأنّه كافرٌ مشركٌ ويُستحلّ قتله؟!


المعجم اليمني في اللغة والتراث بواسطة: أرشيف اليمن twitter