المعجم اليمني

قضض

ق ض ض

تعريف-1: قَضَّضَ المقضِّض المكان يقضِّضه تقضيضاً وقضّاضاً فهو مقضِّضٌ له والمكان مقضَّض؛ أي: طلاه وغطّاه بتلك الخلطة المعروفة منَ الحصى والنّورة والماء المعدّة بإتقانٍ لهذا العمل من أعمال البناء. و ذكر الهمدانيّ القضاض، وقال عن(وجرة) وهي في طريق حاجّ البصرة: (بوجرة وهي بئرٌ وبركٌ مقضّضة) (صفة جزيرة العرب: 256) .


استطــراد: القَضاض: عمليّةٌ معروفةٌ من أعمال البناء، وهي عمليّةٌ فنيّةٌ متقنةٌ أجادها اليمنيّون منذ آلافِ السّنين، وخاصّةً في مرافق الرّيّ، منَ السّدود و المآجل والمآخذ والبرك والقنوات والسّواقي، وفي المعابد ثمّ المساجد، وفي بعض المباني منَ المنازل والدّور والقصور ونحو ذلك. والقضاض يتألّف من مادّتين أساسيّتين هما (النُّوْرَة) و(الهشاش ـ الحصى) مع الماء بالطّبع، ولكنّ طريقة خلطه والعناية به وعمله تجعل هذه الخلطة مادّةً في غاية القوّة والمتانة, فعمليّة خلط (الوَغْزَة ـ الخلطة) وخدمتها تستمرّ بضعة أيّام، وهم يغادونها ويراوحونها بالعناية، ثمّ إنّ عمليّة التّقضيض؛ أي: تغطية الأماكن الّتي يراد تقضيضها بطبقةٍ منَ القضاض تتمّ بكلّ دقّةٍ واهتمام، وتستمرّ أيّاماً أكثر، وهم يغادونها ويراوحونها بالدَّقِّ و(التَّوْغيز) لتثبيته وعدم ترك أيّ فراغاتٍ تتخلّله حتّى لو كانت فقاعةَ هواء، وبعد وضعه طبقةً على الجدران والأرضيّات المقضّضة، يستمرّ تدليكه بأدواتٍ ملساءَ عدّة أيّامٍ حتّى يجفّ تماما، ويختتم هذا التّدليك، بطليه بطبقةٍ رقيقةٍ منَ الشّحم يستمرّ تدليكها حتّى يصبح سطح القضاض أملسَ مصمتاً لامعاً يقاوم الزّمن. ولا يزال في بعض المناطق الأثريّة بعض المرافق المقضّضة كالبرك والصّهاريج تعمل، أو صالحةٌ للعمل من عهدٍ ما قبل الإسلام، لم تتعهّدها يد الإنسان إلّا بشيءٍ منَ التّرميم فصمدت حتّى اليوم. وفي بعض المناطق الأثريّة، نجد دُوْراً أو قصوراً بُنيت بكَبْسَةٍ من مادّة القضاض، والكبسة: ما يكون بين جداري الظّهارة والبطانة من مادّةٍ ردميّةٍ تكون في الغالب من الطّين والحجارة، أمّا حينما تكون منَ القضاض فإنّ جدران ذلك البناء تكون متماسكةً كقطعةٍ واحدة، فتنظر إلى أحد الجدران من ظاهره فتراه مداميكَ منَ الحجارة لا أثر فيها ظاهرٌ للقضاض؛ إذ إنّ القضاض في الوسط، ولهذا فإنّ مثل هذا البناء إذا تقوّض بفعل فاعلٍ أو بفعل الزّمن، لا يتهدّم بانهيار حجارته مبعثرةً كما هو معهود، بل تنقعر جدرانه مداميكَ متماسكةً لقوّة القضاض الّذي يمسكها منَ الدّاخل، فتعجب لعددٍ منَ المداميك تراها منقعرةً وهي متماسكةٌ محافظةٌ على صفوفها ولم تتناثر حجارتها، ولا يزول عجبك إلّا إذا نظرت إلى كبستها منَ القضاض الّذي حفظها منَ التّفكّك بقوّته العجيبة. وعمل القضاض إلى جانب كونه شاقًّا أكثرَ كلفةً منَ الإسمنت الّذي انصرف النّاس إليه اليوم بديلاً عنِ القضاض، ولكنّ القضاض عملٌ فنّيٌّ تراثيٌّ ولا يساويه في القوّة شيء، وحبّذا لو حافظ القادرون عليه. وأذكر أنّ النّاس في منطقتي كانوا إذا عقدوا العزم على تقضيض سدٍّ أو بركةٍ أو سطح مسجدٍ يحتشدون لذلك بكلّ اهتمام، ويشمّرون عن سواعدِ الجدّ، فيجتمع العمّال أوّلاً ويذهبون بمعاولهم وجواليقهم إلى منجمٍ من مناجم (الخِرْشاب ـ الحجارة الكلسيّة)، وتكون هذه المناجم عادةً في الشّواهق الجبليّة مترسّبةً عن ينابيع مياهٍ قديمة، أو لا تزال جاريةً مشكّلةً بذلك حيوداً وصخوراً ضخمةً منَ الكلس أو (الخرشاب)، ويكسر العمّال بمعاولهم من ذلك المنجم ما يحتاجونه قطعاً بحجم اليد أو اليدين مكوّرة، ويحملون منه في جواليقهم، ليجمعوه أكواماً في مكانٍ معيّنٍ اختاروه، وبعد أن يجمعوا القدر الكافي يذهبون ثانياً في الشِّعابِ والجبال لإحضار الحطبِ اللّازم منَ الأعواد اليابسة الجزلة ومن جذوع الأشجار الكبيرة، ثمّ إنّهم ثالثاً يقومون ببناء (طَبُون النُّوْرة)؛ أي فرن إحراق الخرشاب، وهذه الطّبون تبنى بالحجارة، دائريّة الشّكل مثل البرج، يبلغ قطرها ثلاثةَ أمتارٍ أو أربعة، وارتفاع جدارها أقلّ من ذلك، والعمليّة الرّابعة تكون وضع ذلك الخرشاب في هذه الطّبون ليملأ ربعها الأسفل، ثمّ يردمون عليه بسقفٍ منَ الصّلل؛ أي: الحجارة الطّويلة المستوية ويتركون بينها فراغاتٍ وفتحاتٍ تفضي إلى الخرشاب، ثمّ إنّهم خامساً يضعون ما جمعوه منَ الحطب الجزل فوق ذلك حتّى يملؤوا الطّبون به، ثمّ يشعلون فيه النّار الّتي تستمرّ متّقدةً بضعة أيّامٍ بلياليها ينضج بها الخرشاب وتتحوّل أحجاره إلى قطعٍ حمراءَ مثل الجمر، وبعد أن تنطفئ النّار وتبرد الطّبون، ويعود ذلك الخرشاب حجارةً باردةً مثلما كان إلّا أنّه أقلُّ صلابة، يقومون بالعمليّة السّادسة وهي استخراج ذلك الخرشاب بكلّ عنايةٍ وحمله بالجواليق لوضعه كومةً أو عدّة كوماتٍ في ساحةٍ مستويةٍ ملساء، ثمّ يحضرون الماء ويصبّونه على تلك الحجارة الباردة منَ الخرشاب المحرق، فإذا بها بمجرّد ملامسة الماء لها تحرّ وتحمى وتغلي كغليان المِرجل ممّا يثير العجب لعدم معرفة النّاس بالتّفاعل الكيميائيّ الّذي يحدث بين الجصّ أو الخرشاب بسبب تفاعل الماء مع الكلس وبهذا فإنّ الشّاعر العربيّ الجاهليّ عمرو بن كلثومٍ قد اعتبر نفسه بلا شكٍّ مجدّداً ومتحدّثاً بأغرب غرائبِ الطّبيعة حينما قال عن كأس الخمرة الّتي تشعشع وتزبد عند خلطها بالماء: مشعشةً كأنّ الجِصَّ فيها إِذا ما الماء خالطها سخينا فهي كأسٌ مشعشة؛ أي: ممزوجةٌ بقليلٍ منَ الماء ولكنّ الماء لا يكاد يخالطها حتّى تبدو كأنّ الجِصّ سخيناً فيها لأنّها ترغي وتزبد. أمّا الحصّ كما يذكر الرّواة؛ أي بالحاء المهملة فليس له بالسّخونة أيّ وجه شبه، فالحصّ كما يذكرون هو الورس أو الزّعفران ، فأين السّخونة فيه؟ وأين ما يحدثه من سخونة؟ و(سخيناً) صفة منصوبة للجصّ . أمّا بعد أن يصبّ الماء على الخرشاب فيغلي ويتبربر، فإنّ تلك الحجارة الخرشابيّة تتحوّل إلى (نورة) بيضاءَ ناعمة، أو إلى جصٍّ أنعمَ من ذلك الجصِّ الّذي يطحن طحنا، وبعد ذلك يستعملون هذه النّورة إمّا في التّقصيص، بصادين مهملتين؛ أي: تبييض البيوت والأماكن، وإمّا في التّقضيض، بمعجمتين؛ أي: عمل القضاض على النّحو المذكور سابقا، وانظر إلى تبادل الأماكن بين الصّاد والضّاد في هاتينِ الكلمتين بدلالتيهما المتقاربتين؛ أي : قصّص وقضّض.


المعجم اليمني في اللغة والتراث بواسطة: أرشيف اليمن twitter