المعجم اليمني

دثأ

د ث أ

تعريف-1: الدَّثأ: غلّةٌ أو غلاتٌ تحصد في أوائل الصّيف، وتكون برًّا وشعيراً وعدساً وعتراً ـ جلبان ـ وكلّها تحصد في هذا الموسم. ونحن نقول: الدِّثا بدون همزة، ونقول: الدَّثيّ من باب النّسبة إلى الدّثأ، ولكن مع تسهيل الهمزة ونقول: الدَّثِيَّة من باب النّسبة إلى الغلّة الّتي تأتي في الدِّثا؛ أي أوّل الصّيف مع تأنيثها كصفةٍ للغلّة. ومبذر هذه الغلّة يكون على مطر الوسميّ في الرّبيع، ونحن لا نسمّي الغلة بمبذرها بل بمحصدها، ولهذا فإنّ هذه الغلّة وإن بذرت في الرّبيع لا تنسب إليه، بل تنسب إلى الصّيف وهو قديماً (الدّثأ) فنقول: (الدَّثِي)؛ أي (الدَّثَئي) ونقول: (الدَّثِيّة)؛ أي (الدّثئية) ونقول: (الدِّثا ـ بالكسر والتّسهيل ـ) مكان (الدّثأ ـ بالفتح والهمز ـ) بدون نسبة؛ أي باسم الصّيف نفسه، كما نقول (الخريف) للفواكه لأنّها تأتي في الخريف حتّى لنقول: اشتريت اليوم خريفا؛ أي: فاكهة، ورأيت من يكتب مصروف بيته اليوميّ، وقد كتب إلى جانب الخضار واللّحم والسّكر.. إلخ كلمة (خريف)، فقلت له: وأيّ خريفٍ اشتريت ونحن في الرّبيع؟ فقال: موزٌ مستوردٌ منَ الأكوادور؛ أي: أنّ كلمة (خريف) حلّت محلّ (فاكهة) تماماً عند الموغل في العامّيّة. استطراد إنّ كلمة (الدّثأ) تجرّنا إلى مناقشةٍ لُغويّةٍ ودلاليةٍ مهمّة، وذلك لأنّ هذه الكلمة الّتي لا تزال على ألسنة اليمنيّين إلى اليوم كاسمٍ للصَّيفِ أوّلاً وكاسمٍ لغلّاتٍ تحصد في موسمٍ معيّن، هي كلمةٌ عربيّةٌ تراثيّةٌ عريقة, وإذا كان تقادم الزّمن بها قد كاد يميت استعمالها، بحيث لم ترد فيما أعلمه منَ التّراث العربيّ إلّا في نصٍّ واحد، ومع ذلك جاءت فيه مصحّفةً محرّفةً ولم ينتبه لذلك أحد ـ كما سيأتي ـ بحيث جاء ذكرها في المعجمات صحيحاً من جانبٍ ومضطرباً من جانبٍ آخرَ ـ كما سيأتي أيضاً ـ إلّا أنّها بحمد الله قد جاءت في عددٍ منَ النّقوش المسنديّة اليمنيّة، وفي سياقاتٍ جليّةٍ واضحةٍ تُزيل كلّ إبهامٍ حول دلالتها كاسمٍ لفصلٍ من فصول السّنة، وكاسمٍ أيضاً لغلّةٍ أساسيّةٍ منَ الغلّاتِ الزّراعيّة الّتي تحصد في فصلٍ معيّنٍ من فصول السّنة، ولذلك فإنّه من خلال نقوش المسند بالذّات يمكن وضع الأمور في نصابها سواءٌ بالنّسبة للدّارسين في مجال النّقوش اليمنيّة المسنديّة القديمة، أم لمن يعثرون عليها في نصٍّ أو نصوصٍ عربيّةٍ تراثيّةٍ وقد صحّفتها الأقلام وتحرّفت في الألسن واضطرب شرحها وتفسيرها عند اللُّغويّين. ولهذا نبدأ أوّلاً: باستعراض بعضٍ من سياقات ورودها في النّقوش المسنديّة سواءٌ بعَدّ كلمة (الدّثأ) اسماً لفصلٍ معيّنٍ من فصول السّنة الأربعة المعروفة، أم بعَدّها اسماً لغلّاتٍ زراعيّةٍ تحصد في موسمٍ معيّنٍ من هذا الفصل، وبذلك نفضي إلى مناقشة ما جاء عنها في كتاب (المعجم السّبئيّ). فأمّا في نقوش المسند، فإنّهم عندما يسردون فصول السّنة الأربعة يبدؤون بالصّيف لأهمّيته الزّراعيّة، فيقولون: (صيف، وخريف، وشتاء، وربيع)، ولكنّ أسماء الفصول عندهم ـ كانت عدا الخريف ـ مختلفةً عمّا أصبحت عليه فيما بعد، ولهذا كانوا يوردون في النّقوش فصول السّنة كما يلي: (دثأ، وخريف، وسعسع، وملي) وبهذا تكون كلمة (خريف) هي العلامة الفارقة، فما قبل الخريف هو الصّيف، وما بعده هما الشّتاء ثمّ الرّبيع. وقد جاء هذا التّرتيب للفصول الأربعة في عددٍ منَ النّقوش، أكتفي منها هنا بالإشارة إلى: (جام/ 615) فأصحابه (كبار أقيان) سكّان مدينة (شبام) من أقيالٍ بكيل يسألون الإله (المقه) أن يمنحهم الغلال الوافرة من كلّ أراضيهم (دثأ، وخريفاً، وسعسعاً، وملياً). كذلك (جام/ 623) فأصحابه (بنو جرة) يسألون الإله الغلال الوفيرة في (الدّثأ والخريف وفي سعسع وملي) ومنها: (جام / 650، 661) وكذلك: (إرياني 19، 25) وغير ذلك منَ النّقوش الّتي لا ترتّب فصول السّنة إلّا على هذا النّحو: (دثـأ وخريف وسعسع وملي). وإذا ذكرتِ النّقوش الغلّات نفسها، فإنّ (الدّثأ) هو غلّةٌ أيضاً، بل وغلّةٌ مهمّةٌ لا بدّ أن تذكر إذا تحدّث هذا النّقش أو ذلك عنِ الغلال، وذلك مثل: (دثأ وخريف وقياظ وصراب وعلّان ـ إريانيّ/ 29)، ومثل (قياظ ودثأ وصراب وملي سي/ 174 ـ)، ومثل: (دثأ وقياظ وصراب ـ جام 719)، ومثل: (دثأ، خريف جام / 618، 666 ـ)، ومثل: (دثأ وخريف وقياظ وصراب إريانيّ/ 19 ـ) … إلخ. وإذا ذُكرتِ المواسم ـ وهي في النّقوش البروق ـ فلا بدّ أن يذكر (بارق الدّثأ) لأنّ بارق الصّيف هو من أهمّ مواسمِ المطر، ولذلك ذكر (بارق الدّثأ) في عددٍ منَ النّقوش منها:(جام 610و627) و(إريانيّ / 19) وغيرهما منَ المساند. وعلى هذا الأساس الّذي وضعته نقوش المسند، وهي من أصحّ الوثائق اللُّغويّة وأقدمها على الإطلاق.. يمكن أن نعيد النّظر حول ما جاء عن كلمة (دثأ) في القواميس العربيّة، وحول ما جاء عنها في كتاب (المعجم السّبئيّ) أيضاً، كما نقف عند نصٍّ منَ المأثور عنِ الرّسول X. فأمّا القواميس العربيّة فإنّ ما دُوْنَ (لسان العرب) و(تاج العروس) ومن معجمات أحدثَ قد أهمل المادّة تماماً أو نقل بعض ما جاء في القاموسَين المذكورَين على قصورٍ في الأصل والفروع. وما جاء عنِ الكلمة في لسان العرب لا يتجاوز النّصّ الآتي: «الدّثئيّ منَ المطر: الّذي يأتي بعد اشتداد الحرّ قال ثعلب: هو الّذي يجيء إذا قاءتِ الأرض الكمأة. والدّثئيّ: نتاج الغنم في الصّيف. كلّ ذلك صِيْغَ صيغةَ النّسب وليس بنسب». ذلك هو كلّ ما جاء في اللّسان، أمّا الملاحظات حوله فهي كما يلي: أوّلاً: نستفيد من عبارة « بعد اشتداد الحرّ» معنى الصّيف؛ لأنّ الحرّ يشتدّ في الصّيف، ونستفيد من عبارة « قاءتِ الأرض الكمأة» معنى الصّيف فالكمأة تكون أتمّ إنباتاً في فصل الصّيف. أمّا عبارة «والدّثئي نتاج العنم في الصّيف» فقد نصّت على الصّيف نصّا، وكأنّه يقول: الدّثئيّ هو: الصّيفيّ. ثمّ خصّصه في نتاج الغنم شأن لغة المجتمعاتِ البدويّة. ومن هذا نستنتج ونحكم أنّ: الدّثئيّ، مرادفة لكلمة: الصّيفيّ، ثمّ أنّ كلمة (دثأ) مرادفة لكلمة (صيف). ثانياً: أمّا قوله عن صيغة (دثئي): « كلّ ذلك صِيْغَ صيغةَ النّسب وليس بنسب» فإنّ القول الصّحيح فيه هو: إنّ الكلمة بصيغة النّسب، هي نسبةٌ إلى الكلمة الثّلاثيّة (دثأ) الّتي لم تذكرها القواميس وجاءت في النّقوش اسماً لفصل الصّيف كما سبق، واسماً لغلّةٍ تحصد في الصّيف هي (الدّثأ) في المساند و(الدّثي الدّثئيّ) و(الدّثية ـ والدّثئيّة) بلهجاتنا اليوم، والّتي تميل كسائر اللّهجاتِ إلى تسهيل المهموز، واسماً للمطر الّذي تبذر عليه غلّة (الدّثأ)، وهو الوسميّ. ونفي صيغة النّسبة عن كلمة (الدّثئيّ) كما قال صاحب اللّسان، مردّها إلى أنّ الكلمة الثّلاثيّة (دثأ) كاسمٍ لكلّ ما سبق ذكره وكما جاء في نقوشٍ كثيرةٍ منها ما ذكرناه أو أشرنا إليه، لم تصل إلى أسماع اللُّغويّين رغم بقائها آنذاك وحتّى اليوم على ألسنة أهل اليمن، ومن هنا ظنّوا كلمة (الدّثئيّ) صيغةً اسميّةً جاءت على هذا النّحو وليست من باب النّسب، ولعلّهم ظنّوها من قبيل بعض الكلماتِ الّتي يأتي في آخرها ياءٌ ليست ياءَ النّسبة مثل: كرسيّ. أمّا (المعجم السّبئيّ) فإنّه قد شرح كلماتِ العبارة السّبئيّة المتكرّرة (دثأ، وخريف، وسعسع، وملي) كلّ واحدةٍ في بابها بالطّبع. وقد جعل مصنفو المعجم كلمة (الدّثأ) بمعنى: الرّبيع، وأبقوا الخريف على حاله، وجعلوا كلمة (سعسع) الّتي بعد الخريف بمعنى: الصّيف، وكلمة (ملي) بمعنى الشّتاء، وبهذا يصبح ترتيب فصول السّنة لديهم هو كما يلي: (ربيع، وخريف، وصيف، وشتاء) وهو ترتيبٌ غير منطقيٍّ من حيث التّتابع الزّمنيّ للفصول. والّذي أراه أنّ العبارة الّتي تتردّد في النّقوش مرتّبةً ترتيباً زمنيًّا منطقيًّا حسب توالي الفصول، بادئةً بالصّيف الّذي هو أوّل السّنة الزّراعيّة في حياة المزارعين وحسابهم حتّى اليوم. ومن ثَمّ فإنّ عبارة (دثأ، وخريف، وسعسع، وملي) تقابلها تماماً عبارة: (صيف، وخريف، وشتاء، وربيع). ولو سألنا أيّ مزارعٍ أو أيّ إنسانٍ عن فصول السّنة لقال هي: الصّيف والخريف والشّتاء والرّبيع، حسب تسلسلها الزّمني وما أظنّ أحداً سيقول هي: الرّبيع والخريف والصّيف والشّتاء. فهذا ترتيبٌ مخالفٌ للمنطق ولتسلسل الفصول. أمّا ما جاء من مادّة (د ث أ) في النّصوص التّراثيّة ومؤلفاتها فأظنّ حسب علمي أوّلاً أنّ كلمة (دثأ) أو (الدّثأ) كاسمٍ لفصل الصّيف، وكاسم المطر وغلّة، لم ترد في أيّ نصٍّ منَ النّصوص لا شعراً ولا نثرا؛ ولذا لم ترد الكلمة الاسميّة (دثأ) في القواميس، وإنّما وردت صيغتها النّسبيّة كما سبق. على أنّي أظنّ أنّ كلمة (دثأ) قد وردت مضافةً إلى ضمير جمع الغائبين (هم) في نصّ رسالةٍ من رسائل النّبيّ إلى أهل اليمن. ولكنّ الرّواة والنّسّاخ قد حرّفوا هذه الكلمة كما حرّفوا غيرها منَ المفرداتِ الخاصّة باللّهجات، والّتي كان الرّسول محمّد ٌX يستخدمها في رسائله ومخاطباته لكي يكون خطابه إلى كلّ جماعةٍ ببعض ما اعتادوا عليه في لهجاتهم، وفي رسائله X الكثير من ذلك، وإن هو تعرض فيما بعد للتّصحيف والتّحريف, (كما سيأتي في الاستطراد الآتي): وكلمة (دثأ) وردت ـ كما أظنّ ـ في رسالته X، إلى مالك بن نمطٍ الهمدانيّ ذي المشعار وافد همدان. والرّسالة تقول: «هذا كتابٌ من محمّدٍ رسولِ الله لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب وحقاف الرّمل، مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمطٍ ومن أسلم من قومه. على أنّ لهم فراعها ووهاطها وعزازها ما أقاموا الصّلاة وآتوا الزكاة. يأكلون علافها، ويرعون عفاءها ولنا من (دفئهم وصرامهم) ما سلّموا بالميثاق والأمانة. ولهم منَ الصّدقة الثّلب والنّاب والفصيل والفارض والدّاجن والكبش الحوريّ, وعليهم فيها الصّالغ والقارح». والكلمتان اللّتان وضعتهما بين قوسين كبيرين من هذا النّصّ هما المقصودتان؛ أي (الدّفأ والصّرام)، ولما كان الرّسول هنا يخاطب مجتمعاً زراعيًّا هو مجتمع همدان، فإنّه X، وقد بيّن لهم ما يكفله لهم الإسلام من حقوق، قد أشار إجمالاً إلى ما يلزمهم به من واجباتٍ ممثّلةً في الزّكاة ولما كانت غلّتا (الدّثأ) و(الصّراب) هما أهمّ الغلّات في كثيرٍ من مناطق اليمن، فإنّه X، قد قال لهمدان: للمسلمين نصيبٌ في الغلال منَ الحبوب مثل زكاة ثمرات (الدّثأ) وثمرات (الصّراب)، فللمسلمين حقٌّ عند همدانَ في (دثئهم وصرابهم) أو في «دثئيِّهم وصرابهم». وقد أغرب الشّارحون، في شرح هاتين الكلمتين بعد تحريفهما، وخاصّةً في شرح (دفأ) حيث قالوا عنها: إنّ عبارة «ولنا من دفئهم» معناها: ولنا من إبلهم وغنمهم لأنّ الدّفء هو نتاج الإبل وما ينتفع به منها، سمّاها X، دفأ لأنّه يؤخذ من أوبارها وأصوافها ما يستدفأ به. وهو قولٌ بعيدٌ كلّ البعد عمّا أراده X، خاصّةً وأنّه قد تحدّث عمّا على همدان من زكاة الحيوان بعد ذلك في الفقرة الأخيرة من رسالته، أمّا هنا فكلامه X، عن زكاة الغلال، ولكن هكذا يعود ما يتعلّق بالعمل الزّراعيّ إلى أمورٍ تتعلّق بحالة البدو والرّعاة وإبلهم وغنمهم، كما يعود كثيرٌ من أعمال البناء إلى أجزاء خيمة البدويّ وعيدانها. وأمّا شرحهم لكلمة (الصّرام) فله وجه، من حيث إنّ (صرب) و(صرم) كلاهما بمعنى (قطع) والصّرام يطلق على قطاف النّخل، ولكن اليمن ليس بلد نخلٍ بالدّرجة الأولى، بل هو أوّلاً وقبل كلّ شيءٍ بلد غلّاتٍ من معظم أنواع الحبوب، وبلد ثمارٍ وفواكهَ أخرى، ثمّ يأتي النّخل في النّهاية. ولعلّ الرّسولَ X، لم يقصد إلّا (الصّراب) الّذي هو اسمٌ للحصاد واسمٌ للغلّة الرّئيسيّة والأهمّ في حياة اليمنيين؛ انظر (صرب). وكثيراً ما تأتي كلمتا (دثأ) و(صراب) مقترنتين في نقوشِ المسند فلا تذكر بعض النّقوش غيرهما، بعبارة: وحمداً للإله على ما مَنّ به من غلّاتِ الدّثأ والصّراب الوفيرة. تكتفي النّقوش بهما، وتذكر نقوشٌ أخرى سواهما. كما أنّ الكلمتين لا تزالان حيّتين ومتقارنتين على ألسنتنا حتّى اليوم. ولو تعسّف أحدٌ فقال: إنّ الرّسول X، قد عاد بالكلمتين إلى أصلٍ لُغويّ، فالدّثأ منَ الدّفء؛ لأنّ غلّة الدّثأ تجيء في الصّيف، والصّراب منَ الصّرم؛ أي القطع أو قطاف النّخل.. لخرج بذلك عن روح القضيّة بما ثبت قطعيًّا عنِ الرّسول X، من مخاطبته لأصحاب اللّهجات ببعض المفرداتِ المعروفة لهم والمألوفة لديهم من لهجاتهم، وكلمة (الدّثأ) وكلمة (الصّراب) هما من صميم لهجاتِ اليمن آنذاك ومن قبلُ بمئاتِ السّنين ومن بعدُ حتّى اليوم، بل هما من صميم المصطلحاتِ الزّراعيّة الّتي اكتسبت عمق الدّلالة والثّبات بحيث لا يحلّ أي مرادفٍ محلّها تماما؛ إذ إنّ للمصطلحات حرفيّتها الّتي لو خرجت عنها لكانت شبه مضحكة، فأنت إذا قلت: هذا هو موسم صراب الذّرة، رسمت في ذهن السّامع صورةً كاملةً شاملةً عنِ الموسم وجموع النّاس وحركتهم وأهازيجهم، بل حتّى دخائل أنفسهم من فرحٍ للخير الوفير أو حزنٍ لضعف الغلّة.. إلخ بينما لو قلت إنّ هذه الأيّام هي أيّام قطع قصب الذّرة.. أو أيّام قطع الزّرع.. لما صنعت شيئا، بل لكنت ممّن لا يحسنون القول. استطراد (بعض المفرداتِ اللُّغويّة اليمنيّة الخاصّة في رسائل النّبيّ X، إلى أهل اليمن) قبل شيوع المدارس الحديثة في اليمن، كان طلّاب العلم يقرؤون السّيرة النّبويّة الشّريفة في مرحلةٍ مبكرةٍ من مراحل تلقّيهم. وعند قراءتنا الأولى لسيرة ابن هشامٍ وغيرها، أتذكّر ممّا أتذكّر، أنّنا كنا نجد صعوبةً أكثرَ في فهم نصوص رسائل النّبيّ X، إلى أهل اليمن بوجهٍ خاصّ. ولا شكّ أنّ من يقرأ هذه الرّسائل في مثل تلك المرحلة أو غيرها، سيجد أنّها مليئةٌ بالألفاظ الغريبة والكلماتِ العسيرة على الفهم، والّتي لا يستعان على شيءٍ من فهمها إلّا بما قد يكون لها من هوامشَ على النّص، تشرح مفرادته شرحاً شافياً حينا، وشرحاً غير شافٍ ولا مقنعٍ أحياناً أخرى. وبعد ذلك بسنوات، ومع مزيدٍ منَ النّضج والإلمام بالدّراساتِ المسنديّة والتّأمّلات في مجال اللّغة العربيّة واللّهجاتِ العامّيّة بدأ بعض تلك المفردات يكشف لي عن غموضه، وينمّ عن دلالاته بعد تصحيح ما قد يكون ألمّ به منَ التّصحيف أو التّحريف أو هما معا. وأتذكّر أنّ أوّل عبارةٍ اهتديت إلى تصحيحها، هي قول أبي موسى الأشعريّ مجيباً الرّسول X، بقوله وهو يشير إلى من معه من قومه: «… وهؤلاء يا رسول الله قومٌ أفضى بهم إليك سيرٌ دَدٌ وزَمَع ..». هكذا جاءتِ العبارة وبعد تأملٍ لها ولما شرحت به من أنّ السّير الدّد هو السّير السّريع، وأنّ الزّمع هو الشّوق، ثمّ أقتنعت واهتديت إلى أنّ أبا موسى لم يقل إلّا: «أفضى بهم إليك سردد ورمع»؛ أي الواديان المعروفان باسميهما منذ أقدم العصور، وهما الواديان المعروفان في تهامة. وقد سبق لي أن أشرت إلى هذا الموضوع وكتبت حوله. وأمّا الرّسائل النّبويّة الشّريفة فإنّ الغامض والمبهم من كلماتها، لا يزال على غموضه وإبهامه، والّذي هداني الله إلى تصحيحه وشرحه ما هو إلّا كلماتٌ قليلة، ولكنّ هذا القليل يشير إلى ما يمكن أن يصحّح ويعاد شرحه وتفسيره ممّا لا يزال غامضاً من رسائله X، خاصّةً إلى أهل اليمن، أمّا هنا فنكتفي بالوقوف على ما يلي: (علافها) في قوله X في رسالته السّالفة الذّكر إلى مالك بن نمطٍ وقومه من همدان: «..يأكلون علافَها..». والشّارحون يفسّرونها بأنّها ثمار الطّلح، معتمدين على كلمة (عُلَّف) الّتي هي في اللّغة: «ثمر الطّلح، أو أوعية بذوره، كأنّها الخرّوبة العظيمة، وفيها حبّ كحبّ التّرمس ترعاه السّائمة، ولا يأكله منَ النّاس إلّا المضطر» كما جاء في اللّسان. وانظر إلى قوله: إلّا المضطر، فما هي إلّا استدراكٌ من وحي كلمة (علافها) في كلامه X، كما فهموها بعد تصحيفها، والّذي نعرفه أنّ ثمار الطّلح أو قرونه كما نسمّيها لا تؤكل كطعامٍ أبدأ، وكم من سنةٍ جديبةٍ كانت تحلّ بالنّاس فيما مضى، يلجأ المضطر فيها إلى أكل نباتات (الحَلَص) و(الخُمَع) و(الذَّخَث) و(الكُسمُع) و(الدُّعبب).. إلخ، ولكنّه لا يأكل قرون الطّلح على كثرته في مناطقَ منَ اليمن، وإن كان الرّعيان يتلهّون بأكل الصّغير الرّخص منه. فهل منَ المعقول أن يجود الرّسول X، على همدانَ جزاءً لإسلامهم بمكرمة أكل قرون الطّلح ممّا تنتجه أرضهم؟ وكأنّه بذلك قد اصطفاهم وخصّهم بهذا الفضل! والّذي صحّ عندي أنّ كلمة (علافها) ما هي إلّا كلمة (علاتها) من (علاة) أو (العلاة) الّتي ترد في نقوش المسند كما في (c. 67). ومعناها: ما يزرع في المناطق العالية والمدرّجاتِ الجبليّة والأماكن المرتفعة، ونسمّيها اليوم (المَعْلاة) وهي في مفهومنا تشمل: البرّ والشّعير والبلسن ـ العدس والعتر ـ الجلبان والحلبة والفول.. كلّ هذه غلّات تصلح أحسن ما يكون الصّلاح في الأماكن العالية، وتدخل في مفهوم كلمة (علاة) في النّقوش، و(المَعْلاة) في كلامنا اليوم. وهي بلا شكٍّ ما عناه الرّسول X، في كلامه، فللهمدانيّين أن ينعموا بغلّات أرضهم الّتي يغلب عليها (المَعْلاة) كون أرضهم منَ المرتفعاتِ الّتي تصلح فيها (العلاة) أو (المَعْلاة) وللمسلمين نصيبٌ هو الزّكاة من غلّاتهم، وخاصّةً من غلّتي (الدّثأ) و(الصّراب) المهمّتين. والكلمة الثّانية هي كلمة: (قيمة) من رسالته X، إلى ملوك حِمْيَر كما توردها المراجع، والّتي يحدّد لهم فيها مقدار الجزية على من بقي على دينه من يهوديٍّ أو نصرانيٍّ فيقول X : «.. ومن كان على يهوديّته أو نصرانيّته فإنّه لا يُردّ عنها، وعليه الجزية على كلّ حالمٍ ذكرٍ أو أنثى حرٍّ أو عبدٍ دينارٌ وافٍ من قيمة المعافر أو عوضه ثياباً». والشّارحون يفسّرون كلمة (المعافر) بأنّها: ثيابٌ من ثياب اليمن. كأنّهم تخيّلوا المعافر جمع معفر والمعفر ثوبٌ مثل مئزرٍ ومآزر هذه واحدة. ثمّ تخيّلوا أنّ هذه الثّياب المعافر قد خصّت بدينارٍ معيّنٍ لا تشترى إلّا به ولا يشترى به أيّ شيءٍ آخر غير هذه الثّياب! فأيّ دينارٍ هو هذا الدّينار التّخصّصيّ أو المخصّص. ثمّ هل يجوز هذا الاضطراب في كلامه X، وهو أفصح العرب لساناً وأنصعهم بياناً؟ إنّ المعافر في اليمن هي: البلاد العريضة الطّويلة المعروفة تاريخيًّا بهذا الاسم في كثيرٍ منَ المراجع، والّتي نعرفها أو نعرف بعضها اليوم باسم الحجريّة وكانت تتبعها مناطق وبلدان، أمّا الثّياب فيقال لها المعافريّة وللثّوب المعافريّ. وكلمة (قيمة) ما هي إلّا كلمة (قِنَة) وهي: مقياس للوزن في نقوش المسند كما في النّقش: (سي/ 541سطر / 122) وكما جاء في المعجم السّبئيّ)، فكما يقال في النّقوش (قِنَة يدع إيل)؛ أي بالوزن الّذي حدّده يدع إيل، قال الرّسول X : «قِنَة المعافر)؛ أي: دينارٌ وافٍ كاملٌ صحيحٌ منَ الوزن المعروف آنذاك لدينار بلاد المعافر؛ أي الّذي يُسكُّ في المعافر ويعمل النّاس به، ويرونه أكملَ دينارٍ وأصحّه وأعلاه قيمَة. فاشترطه X، جزيةً على من بقي على دينه منَ الكتابيّين. فإذا أعدنا قراءة هذا الجزء من رسالته X، طبقاً لهذا التّصحيح استقام لنا المعنى وسلم كلامه X منَ التّحريف والتّصحيف: «.. على كلّ حالمٍ ذكرٍ أو أنثى حرٍّ أو عبدٍ دينارٌ وافٍ من قِنَة المعافر …». أمّا من (قيمة المعافر) بمعنى: الثّياب فلا وجه لها. وبهذا نستفيد حقيقةً تاريخيّةً مهمّة، وهي المكانة الخاصّة الّتي كانت لمنطقة المعافر آنذاك، فتمام الدّينار وصحّته وكمال وزنه حتّى يتّخذ معيارا، هو من أهمّ مظاهر قوّة الكيان السّياسيّ والاقتصاديّ وعلوّ مكانته. وأمّا الكلمة الثّالثة في هذا المجال فهي: (البَـعْـل) جاء في إحدى رسائله X، إلى أهل نجرانَ عند الحديث عن زكاة الأرض الزّراعيّة وغلّاتها قوله: «ومنَ العقار عشر ما سقى البعل والسّماء، ونصف العشر فيما سقي بالرّشا». والعقار هنا: الأرض الزّراعيّة المملوكة بصكّ، والبعل لُغويًّا هو: الأرض وزرعها الّذي لا يشرب إلّا منَ المطر، ولا يشرب شجرها إلّا بعروقه من غير تكلّفِ سقي. وعلى هذا فإنّ عبارة (ما سقى البعل) لا معنى لها، فالبعل لا يسقي شيئًا فهو ليس ماء، بل هو أرضٌ وصِفةٌ لما على هذه الأرض من زرعٍ أو شجر، وكلامه X، أسمى من أن يجيء فيه ما لا معنى له. وأعتقد أنّ ما قاله الرّسول X، هو: «عُشْر ما سقى الغيل والسّماء.. إلخ». والغيل كلمةٌ يمنيّةٌ قديمة، أو أنّ لها خصوصيّةً كبيرة، وقد جهلها الرّواة فحرّفوها إلى (البعل)، ولا يزال هذا هو المعمول به شرعيًّا في الزّكاة، فما سقته الغيول أو الأمطار الموسميّة فيه العشر زكاة، وما سُقي بالدّلاء منَ الآبار فليس فيه إلّا نصف العشر. وللرّسول X، رسائلُ أخرى إلى أهل اليمن، تأتي فيها كلمات (الغيل ـ دون تحريف ـ) و(السّيْح) أو (العين) أو (النّهر) مكان كلمة (البعل) في النّصّ المذكور هنا. وهذا التّحريف في كلامه X، أمرٌ غير مقبولٍ خاصّةً إذا كانتِ الكلمة لا تزال جاريةً على الألسنة من خلال القرون حتّى اليوم. أمّا الكلمة الرّابعة فهي: (الواقف) والّتي تأتي أحياناً: (الوافه ـ بالفاء ـ) وقد ذكر الرّواة هاتين الكلمتين المحرّفتين منَ (الواقه ـ بالقاف والهاء ـ) وذلك عند إيرادهم لعهده X، لأهل نجران، حيث يورِدون أحياناً عبارة (ولا يُغَيَّر واقف من وقيفاه)، وأحياناً عبارة (وافه من وفيهاه) والصّحيح (واقه)، والواقه هو: الآمر، أو الوالي الّذي له الأمر والنّهي في المنطقة أو الولاية، وذلك من مادّة وقه يقه وقهاً فهو واقه، بمعنى: أمر فهو آمر، وهذه المادّة وردت بصيغها المختلفة مئات المرّات في النّقوش المسنديّة، بل إنّ اسم الإله السّبئيّ الأعظم (المقه) لم يأْتِ إلاّ منها بصيغة ما، كما أنّ (الواقه) في المصطلحاتِ الإداريّة القديمة هو صاحب السّلطة العليا في منطقةٍ منَ المناطق مثل الوالي أو المحافظ في مصطلحاتِ اليوم، وقد بقي المصطلح (واقه) حيًّا وبه كان يسمّى من يتولّى الشّؤون المدنيّة الدّنيويّة الإداريّة إلى جانب المسؤولين الدّينيّين من أساقفةٍ ورهبان. وقد ظلّ هذا المصطلح حيًّا إلى عهد الرّسول X، واستعمله X، في عهده هذا لأهل نجران المسيحيّين، ولكن الرّواة سرعان ما جهلوا هذه الكلمة فانقطعت صلتها بوَقَه يَقِه فهو واقهٌ ـ السّالفة الذّكر ـ وأصبح هو (الواقف) أو (الوافه) فيما يدوّنونه عنِ الرّسول X . وأمّا الكلمتان الخامسة والسّادسة فهما: (أحْمورهم وغرْبِهم) أو (غَرْبِهم وأحْمورهم) على اختلافٍ في التّرتيب عند الرّواة وذلك كما يذكرون من عهده X، لقيس بن نمط بن مالكٍ الهمدانيّ ثمّ الأرحبيّ. وأمر قيس بن نمطٍ الهمدانيّ ثمّ الأرحبيّ. وكذلك أمـر أبي موسى الأشعريّ عبد الله بن قيس، هما منَ الأمور التّاريخيّة المهمّة، الّتي لا تذكرها بعض المراجع التّاريخيّة إلّا ذكراً عابرا، مع أنّهما يستحقّان الاهتمام والتّنبيه عليهما لما لهما من دلالاتٍ في تاريخ الإسلام عامّة، وكذلك في تاريخ اليمن. لقد وفد الرّجلان على الرّسول X , وهو لا يزال في مكّةَ يكابد المشقّاتِ من قومه، ولم يكن قد اتّبع دعوة الإسلام إلّا نفرٌ قليلٌ معظمهم من مستضعفي مكّة. فكانا أوّل شخصين مهمّين يفدان على الرّسول X، من خارج نطاق مكّة، بل ومن خارج الحجاز. وكانت هجرة أبي موسى أقدم زمناً من هجرة قيس بن نمط، فقد وفد على الرّسول X، إلى مكة واستمع منه وصدّقه، وعاد إلى قومه لينشر الدّعوة سرّا، ثمّ عاد إلى الرّسول وهو لا يزال في مكّة، فصادف وصوله موعد هجرة بعض أصحاب رسول الله X، إلى الحبشة، فهاجر معهم، ثمّ عاد إلى ديار قومه في تهامة، حيث اصطحب معه عدداً من وجوه قومه، وقام بوفادته الثّالثة إلى الرّسول وقد أصبح في المدينة كما هو معروف. ولا شكّ أنّ مسيرة هذه التّغريبة الدّينيّة، هي منَ القضايا المهمّة في حقيقة تاريخ الإسلام وأحداث مسيرته أيضا. وقد عبّر أبو موسى عن حوافزه لهذا التّحرك الدّؤوب فذكر أنّ منها ضيقه بأحوال قومه واضطراب حبلهم فضرب في الآفاق بحثاً لهم عنِ النّجاة ومنافذِ الخلاص. ولا شكّ أنّ هذا الأمر منَ القضايا المهمّة في تاريخ اليمن وحقيقة أحواله. أمّا قيس بن نمط، فوفد على الرّسول X، إلى مكّةَ أيضاً، وذلك قبلَ بيعة العقبة بعام، واستمع إلى الرّسول، وآمن بدعوته، وكأنّه أحسّ أنّ الرّسول X، يبحث عن مكانٍ جديدٍ يتّخذه منطلقاً لدعوته، ويجد من أهله المنعة والقوّة لنشر مبادئ الإسلام، فدعاه قيسٌ إلى اليمن، ووعده الرّسول بالمجيء، وعاد قيسٌ ليمهّد للرّسول، فنشر الدّعوة بين قومه سرّا، وزاولوا العباداتِ الإسلاميّةَ واغتسلوا في جوف المحورة واتّجهوا إلى القبلة، ولمّا عاد قيسٌ من عامٍ قابل، وجد أنّ بيعة العقبة قد أُبرِمَت، وفاتَ اليمن هذا الشّرف الكبير، وإن كان حظي منه بنصيبٍ باحتضان الأوس والخزرج من أبناء عمرو بن عامر الأزديين للدّعوة الجديدة الغرّاء في منازلهم بيثرب. وعودة إلى الموضوع، فإنّ قيس بن نمطٍ لمّا وفد على الرّسول وصدّقه، كتب له الرّسول عهداً ولّاه فيه على قومه من همدان، وما جاء في أوّل هذا العهد قوله X : (.. أمّا بعد: فإنّي استعملتك على قومك غَرْبِهم وأحْمُوْرِهم ومواليهم..إلخ» أو «.. أحمورهم وغَرْبهم.. إلخ» حسب اختلاف الرّوايات. وعلى كلّ حالٍ فإنّ كلمة (أحْمُوْر) هي صيغة جمعٍ ونسبةٍ لكلمة (حِمْيَر)، وصيغة (أفعول) صيغة جمعٍ مطّردةٌ للنّسبة في نقوش المسند لكلّ جماعةٍ بشريّةٍ فهم يقولون (الأسبوء) و(الأجدون) و(الأيزون).. إلخ، للسّبئيّين والجدنيّين واليزنيّين، حتّى بعض الأسماء الّتي لا نتوقّع أن يجمعوها على هذه الصّيغة؛ مثل (الأحضور) للحضرميّين، و(الأنجور). للنّجرانيين.. إلخ. وقد ظلّت هذه الصّيغة حيّة، وها هو الرّسول X، يستعملها كما رأينا، بل إنّها لا تزال حيّةً جاريةً على ألسنتنا حتّى اليوم، فنحن نقول (الأشمور)، و(الأعروش)، و(الأعروق)، و(الأعبوس)، و(الأصبور)، و(الأحجور).. إلى ما لا مجالَ لحصره من صيغ الجمع والنّسبة للجماعات منَ النّاس. ومع كلّ هذا فإنّ كلّ المراجع الّتي بين يديّ لم تُشِر إلى أنّ هذه صيغة جمع، ناهيك عن أن تنوّه بالمعنى الكبير والدّلالة الاجتماعيّة البالغة الأهميّة، في أن يكون لهمدانَ حِمْيَريّوها ممّا يشير إلى فساد بعض قضايا الأنساب كما يرويها النّسابون حيث تصبح (حِمْيَر) هنا صفةً اجتماعيّةً للحضريّين والقرار منَ النّاس، خاصّةً وأنّ الكلمة المقابلة لها في التّعبير النّبويّ الشّريف نفسه هي (عربٌ بالعين المهملة كما سنرى) وهم البدو المترحّلون، فتترادف أو تكاد عبارتا (حضر وبدو) مع (حِمْيَر وعرب). وقد سألتُ الوالدَ العلّامة القاضي محمّد بن عليٍّ الأكوع، بعد أن اطّلعت على كتابه: (الوثائق السّياسيّة اليمنيّة) الّذي أَوْرد فيه كلّ ما استطاع إيراده من رسائل وعهود الرّسول X، لأهل اليمن ممّا لم يجمعه أحدٌ من قبل جمعه، إن كان قد اطّلع في المراجع الكُثر الّتي عاد إليها على شرح لكلمة (أحمور) بهذه الدّلالة اللّفظيّة والاجتماعيّة فقال لي إنّه لا يتذكّر إن كان قد مرّ بشيءٍ من ذلك ولكنّه عبّر عن موافقته z لي فيما ذهبت إليه منَ النّاحية اللُّغويّة تماما، فصيغة (أحمور) ترادف صيغ (حِمْيَريّين) وهي تعني: الحَضَر. ثمّ قال ـ بحرص العالم المدقّق ـ: أمّا الدّلالة الاجتماعيّة والنّسبيّة لعبارة: (حِمْيَريّي همدان) فهي تلفت النّظر وتحتاج إلى مزيدٍ منَ التّأمّل. فلمّا أدليت له ببعض الحجج حول دلالة (حِمْيَر) خاصّة، وكيف أنّ من يسكنون المدن والقرى يطلق عليهم اسم حِمْيَر، وحتّى في بعض الأصقاع الّتي يُجمع النّسّابون على أنّها حِمْيَريّةٌ خالصة، يوجد فيها بعض مناطقَ منها يطلق عليها أو على ساكنيها بالأصحّ اسم حِمْيَر كما في (آنس) و(عتمه) و(وريمه) و(وصاب) و(وحاظة) و(العدين) و(المعافر) و(رعين) وغيرها.. قال: امضِ في بحثك فالقضيّة تستحقّ الاهتمام، وذلك هو ما فعلته، في بحثٍ خاصّ. أمّا كلمة (غربهم) الّتي تجمع كلّ المصادر الّتي عدت إليها وهي كثيرة، على كتابتها بالغين المعجمة فهي عندي بلا شكّ (عربهم ـ بالعين المهملة ـ). أمّا بالغين المعجمة فلا معنى لها ولا وجه للمقابلة بينها وبين (أحمورهم). و أوضح دليلٍ على ذلك ما جاء في طبقات ابن سعدٍ وهو من أقدم ما ألّف عن عهد رسول الله X، وسيرته وسيرة أصحابه، فقد حدّد ابن سعدٍ ديار (أحمور همدان) فجاءت كلّها في غرب ووسط همدان، وحدّد ديار (غربهم ـ بالغين المعجمة كما رووها ـ) فجاءت كلّها في شرق بلاد همدان وشَمالها الشّرقيّ، فانقلبتِ الصّورة كما تنقلب الخريطة في المرآة، وأصبح الغرب هو الشّرق والشّرق هو الغرب. وهذا ممّا لا يأتي عن رسول الله X، وقد بيّنت كلّ ذلك في البحث المشار إليه فقد ذكر ابن سعدٍ أنّ أحمور همدان هم: (قدم ـ بلاد حجه ـ) و(آل ذي مران ـ عمران ـ) و(آل ذي لعوة ـ ريدة ـ) و(أذواء همدان(, ورغم غموض هذه العبارة الأخيرة إلّا أنّ كلّ من ذكرهم بعَدّهم أحمور همدان، وهم بناءً على تعريفهم للعبارة يجب أن يكونوا شرقي أرض همدان هم في الواقع في غرب همدان وبعضهم في وسط همدان. كما ذكر أنّ (غربهم)؛ أي غرب همدان هم (أرحب) و(نهم) و(شاكر) و(وادعة) و(يام) و(مرهبة) و(دالان) و(خارف) و(عذر) و(حجور) هؤلاء في معظمهم هم في شرق ديار همدانَ وشَمالها الشّرقيّ. كما أنّ هذه القبائل والبطون المذكورة أخيراً هم الأمْيل إلى البداوة وإن كان أكثرهم مستقرًّا كما هو معروف اليوم، فهم عربٌ تغلب عليهم البداوة فسمّاهم رسول الله X، (عرب همدان) لذلك، فعبارته X، ما هي إلّا: «أحمورهم وعربهم»؛ أي: الحِمْيَريّون منهم والعرب، أو: الحضر والبدو. والكلمة السّابعة والأخيرة هنا في هذا العرض الموجز لبعض ما لحق من تحريفٍ وتصحيفٍ لكلماتٍ يمنيّةٍ خاصّةٍ أو ذات خصوصيّةٍ يمنيّةٍ في بعض رسائله X، إلى أهل اليمن، هي اسم مكانٍ وليست مفردةً لُغويّة، أوردها لنرى أنّ التّحريف وصل إلى أسماء أماكنَ معلومةٍ مشهورة, وقد جاء ذلك في رسالته X، إلى(عمير ذي مُرّان) حيث يقول فيها: «.. فإنّ لكم ذمّة الله وذمّة رسوله على دمائكم وأموالكم وأرض البور الّتي أسلمتم عليها..». وليست (أرض البور) هنا إلّا (أرض البَوْن) فعمير ذو مُرّان هو من (بني ذي مُرّان) أقيال عمرانَ وملوكها في سالف الأزمان، وهل لعمرانَ من أرضٍ أهمّ وأشهر منَ (البون)؟ الّذي يُضرب ببرِّه المثل فيقال: ما برّ إلّا بوني؛ والبون أرضٌ خصيبةٌ واسعةٌ ممّا يطلق عليه اسم القاع فيقال: (قاع البون) ومن وحي اتّساعه يقول المثل: «بيِذْرا البَوْنْ بقُحْطَهْ» يقال عنِ الخياليّ الّذي يبني قصوراً في الهواء، أو عنِ البخيل الّذي يريد أن يعمل شيئًا كبيراً بشيءٍ حقير. ويذرا بمعنى: يبذر. والقحطة: الحبّة، أو الحفنة منَ الحبّ برؤوس الأصابع. هذه نماذجُ لُغويّةٌ منَ المفرداتِ اليمنيّة الخاصّة الّتي جهلها الرّواة فحرّفوها ولم أستقصِها هنا، أمّا ما لم يحرّفوه ولكنّهم أساؤوا شرحه وتفسيره جهلاً لمدلولاته فهو أيضاً كثير، وقد أوردت نماذجَ منه في غير هذا المكان.


المعجم اليمني في اللغة والتراث بواسطة: أرشيف اليمن twitter